مظفّر النّواب تأملات وذكريات

مظفّر النّواب تأملات وذكريات

  • 1062
  • 2020/12/08 08:32:50 م
  • 0

د. حسين الهنداوي

"كُلُّ الأشّيَاء رَضيتُ سِوى الذُّلّ، وأنْ يُوضَعَ قَلبِيَ في قَفَصٍ، في بَيْتِ السُلطانْ".

الحبُّ والنضال الثوري، توأمان في شعر مُظفّر النوّاب، بينما همّ الحرية والعدالة والجمال، هو الأسمى والاقوى في كل ما سطره من قصائد رائعة ونضال سياسي ومواقف وطنية وأممية، وما قاساه من سجون واضطهاد وحياةٍ زاهدة وغربة وحرمان، هذا الشاعر الرائد والفنان الكبير الذي يندر إنْ نجح مبدع كبير واحد أنْ يجمع كل ما جمعه من مواهب أصيلة وطاقات متنوعة.

وبالفعل، لم تجمع عبقرية مظفر النواب بين شعر شعبي يتدفق من الجسد كشلال عذب عراقي الروح والجوى، وبين شعر باللغة العربية الفصحى ريادي وحداثوي وملحمي تسامى غالباً على كل محاكاة وتقليد وكل تعصب وكل حدود وحسب، بل إمتلك أيضاً طاقة غنائية خلابة ومهارات لامعة في الرسم (الذي له فيه عدة معارض) والمسرح (عبر كتابة مسرحيات مثل "على كد البريسم" و"ابو سكيو" او اخراج عدد آخر مثل "راس الشليلة مع يوسف العاني)، وكذلك في الموسيقى، فضلا عن ثقافة واسعة وعميقة وطبع دمث وتواضع جم، وكل ذلك الى جانب تاريخ صمود سياسي وثوري يكاد يكون تاريخ شعبه العراقي كله للنصف الثاني من القرن العشرين على الأقل. قصيدته البكر «للريل وحَمَد» التي نشرتها مجلة "المثقف" في 1956، وغدت على كل لسان منذئذ والى الآن، كانت أول إعلان عن عبقريته الشعرية بالعامية العراقية التي، وعبر نصوص شعرية لم تعد تحصى، أبدعت سلفاً ما يشبه ملحمة وجدانية وانسانية فريدة بذاتها سواء لصدق وشفافية العاطفة وشجاعة الموقف السياسي والإنساني أو لجمالية الصورة الشعرية وكذلك الغنائية المموسقة الواعية المنقطعة عن التقليد والرتابة والحداء.

ومظفر النواب بلا ريب الرائد الأهم وقطعاً الأول، وأكاد أقول الأجمل الى الآن، لحركة التجديد في شعر اللغة العامية العراقي الحديث، وهي موجة انبثقت بتأثير حركة الشعر العربي الحديث لجيل الرواد وخاصة قصائد بلند الحيدري وبدر شاكر السياب وحسين مردان كما استفادت من تيار الرسم العراقي الحديث لجواد سليم وفائق حسن وحافظ الدروبي وموسيقى سلمان شكر وجميل بشير وهي بالتالي لا تمثل امتداداً للشعر الشعبي المكتوب باللغة العامية الريفية لجنوبي العراق أو وسطه برغم أن مظفر النواب استفاد منه استفادة قصوى من هذا الشعر وانتقى منه مئات المعاني الروحية والشعرية والتعبيرات والمفردات والحركات والصور والتشكيلات بمهارة وشغف مذهلين مع بقائه بغدادي الروح والأسلوب والنزوات وبقاء شعره الشعبي شعراً مدينيا في الجوهر برغم انه مكتوب بلغة وأجواء جنوبية ما يجعله أقرب الى روحية ابناء المدن وبينهم انتشر بشكل خاص (لا سيما فئات المثقفين واليساريين والطلاب والمهاجرين من محافظات جنوبية الى العاصمة) أكثر من انتشاره بين ابناء الريف أو العشائر أو الفلاحين أو سكان الاهوار رغم انه يمجد معاناتهم وخلجاتهم وتعبيرات عشقهم وإبائهم ونضالهم بصدقٍ وحبٍّ اعظم تمجيد في واقع الحال.

وتمثل السنوات العشر ما بين 1958 و1968، الفترة الأخصب ربما في الانتاج الشعري باللغة العامية العراقية لمظفر النواب كما تدل على ذلك التواريخ التي تحملها قصائده المنشورة في ديوانه (للريل وحمد) وغير المنشورة فيه وعددها كبير اشهرها "براءة" و"حسن الشموس" و"ابن ديرتنه حمد" و"حجام البريٍس" وغيرها.

أما شعره بالفصحى بدءاً بقصيدة "قراءة في دفتر المطر" والمنتمي الى الفترة اللاحقة على 1968، فلا يستوقفنا بقطيعته التامة مع الرومانسية الغنائية وبغزارته وحسب بل وعمق التزامه بمضامين سياسية وصوفية وانسانية الى جانب نزعته التجديدية والتحررية في إطار حركة الشعر العربي الحديث لفترة ما بعد الحرب العالمية الثانية، ما يجعل شعره ككل، أقرب الى سفر انتصار للعدل على الظلم، وللحق على الباطل، وللجمال على الدمامة، بموازاة دوره كمرآة صادقة لحالة وطنية عراقية وعربية ولمواقف احتجاجية ونضالية جريئة مع كل ما تعبر عنه من معاناة فردية وتضحيات تشبه النزيف لوطن بأكمله، حالة تجاهر بأعلى صوت عن انحيازها الى جانب المضطهدين والفقراء بأجواء تجمع النزعتين التأملية الكونية والسياسية الثورية في نفس الوقت، ومن هنا طابعها التحريضي المباشر والغاضب وحتى الجارح أحياناً لـ "شاعر الصراحة الفذّ" مظفر النواب، كما اطلق عليه الناقد الكبير عبد الواحد لؤلؤة الذي لا يحسب أن الزمان "سيجود في المستقبل القريب أو البعيد" بشاعر يمتلك موهبة كموهبة مظفر الشعرية مع ما تكتنز به من خبرة في الحياة والسياسة والمجتمع تدعمها ثقافة تتراكم منذ ان كان طالبا في قسم اللغة العربية في كلية الآداب الوليدة في بغداد الخمسينيات الى جانب قناعته الفكرية اليسارية وعناده وتصميمه والتزامه الصادق في المعتقد، ما انعكس في كل ما قاله في قصائده، بالعربية الفصيحة، في مهاجمة جميع أصحاب السلطة العرب دون استثناء، كما في قصائده بالعامية العراقية، وخاصة في موضوعات الحب، التي توحي بأصالة في الموقف، لا بوقفة مسرحية مفتعلة".

ثقافته الفراهيدية مدهشة وأساسية في منجزه الشعري ولم يتوقف عن تطويرها وأغنائها على الدوام. فإبن بغداد هذا المذهل في سعيه المبكر لامتلاك أجمل وأعمق ما في العامية العراقية، لا سيما الجنوبية السومرية الاعماق، من معان ومفردات وايحاءات روحية وجسدية وأنغام، يستفيد بشكل مدهش أيضاً من كل ما تعلمه في الدراسة الجامعية من تفعيلات وبحور واوزان خليلية وجناس وطباق بل أن كل شعر مظفر النواب باللغة العامية يبدو في اللغة الفصحى ملتزماً بدقة بكل أصولها وبالعروض الخليلية أيضاً على أنه جعلها تتخفى وراء المتدارك والخبب خاصة دون تصنع وادعاء كما لم يترك لها حرية التسلط عليه في أي شكل مغرياً اياها، وكل اللغة، بالتبعية له دون شرط وخوف، وجاعلا القافية تتوارى طوعاً وبكبرياء وراء الشجون والعواطف الاكثر حميمية، فيما الزمن يتماهى مع المكان، مع الهور، صانعا تاريخا جديدا للقصيدة الموغلة في التاريخ غالباً، زاجاً القيم العروضية الكلاسيكية في تحديات الموسيقى الحديثة لا العراقية والعربية فقط بل الكونية ايضا منذ تأثره بأول اوبرا موسيقية سمعها في كلية الآداب ببغداد عام 1952، وكانت أوبرا Othello (أُتيلّو) للموسيقار الإيطالي الكبير جوسيبي فيردي التي تركت سحرها عليه لاحقا حتى في طريقة القاء الشعر. فقد أحب مظفر فيردي بشكل خاص، وأتذكر انه وظّف نوتات موسيقية له وكذلك لبتهوفن في عدة اناشيد وطنية ألف كلماتها بنفسه خلال وجوده في السجن او زيارته لنا في جبال كردستان عام 1973، وقد انشدناها احيانا معه في بعض المناسبات.

العراق هو النبع والبوصلة

ثمة أصالة وثراء وطاقة فائقة في قصائد الشاعر العراقي الكبير مظفر النواب الذي يستلهم اعلى منجزات الشعر العربي الكلاسيكي في أرفع تجلياتها، ويتماهى مع الروح العراقية في أرق تسامياتها وانتصاراتها وانكساراتها العظيمة، وينهل من التراث الفكري والسياسي والأدبي والشعبي لعوالم عربية وشرقية بأسرها ولبلاد الرافدين خاصة من جهة، والمنتمي بقوة وصدق الى الفكر الاشتراكي والتقدمي والانساني والمنخرط بجرأة في حركة شعبه الثورية منذ خيوط شمس حياته الأولى وحتى الرمق الأخير، والنزّاع الى التجديد وحتى المغامرة جماليا ولغويا وفنيا وفكريا، والمتعالي على الرتابة والتعصب والتحزب والجمود والجاه والمال. وهذا او بعضه ما اكتشفه وعرفه كثيرون مثلنا مبكرا وعن كثب لديه.

لكن ثنائي الحريّة والحب هو الخيط المرشد والحد الفاصل والمفتاح لدى هذا الشاعر. اما الوطن، اما العراق، فهو القلب والنبض وبوصلة البواصل والجرح المفتوح الذي لا يضاهيه جرح في اعماق هذه الملحمة الانسانية البديعة، ملحمة شاعر "الريل وحمد" و"وتريات ليلية" و"المساورة امام الباب الثاني" و"حجام البريس" وعشرات النصوص الطويلة والنادرة الاخرى المنشورة وغير المنشورة.

فشعر مظفر النواب، في تصورنا الخاص والراهن، سيل من مشاعر انسانية جياشة ومتسامية تنتمي الى عالم محدد وخاص حتى لغويا ربما.. بيد انها تظل مذهلة في قدرتها الفريدة على مواصلة التحرك بيننا، وحتى فينا، وكل يوم أحياناً، رغم ثقل الأزمنة وتنائي جسد وحتى روح عالمها الأصلي. وعلى العموم، يندر بيننا من لم يتمايل ببهجة مع "مرينه بيكم حمد" او "روحي" او "البنفسج" او لم يستذكر قصيدة "البراءة" او "سعود" او "القدس عروس عروبتكم" حيال لحظات خيبة، وما اكثرها، في حياتنا العاطفية او السياسية والمتراكمة مع مرور الأيام. او لم يتقاطع مع تجربة هذا الشاعر في لحظة او اخرى عبر سجن أو وقفة أو قصيدة أو لوحة أو فرحة أو بكاء قلب. وهذا منذ منتصف القرن العشرين ولحد الآن في الأقل.

وهي فترة طويلة عرفنا خلال عقودها منه مباشرة في الغالب، او من هذا وذاك احيانا، وتدريجيا، ان مظفر عبد المجيد النواب ولد في كرخ بغداد عام 1934 واكمل دراسته الجامعية في كلية آدابها، ثم عمل مدرساً فمفتشاً فنياً ثم مدرسا من جديد في متوسطات عدة في المسيب والكاظمية وبغداد، وانه انتمى الى الحركة الثورية واضطر على الفرار من بلاده متسللا الى ايران متجها الى الاتحاد السوفييتي السابق بعد سقوط بلاده تحت قبضة زمرة من الحثالات والقتلة اثر انقلاب 8 شباط الدموي عام 1963 الذي نظمته الاستخبارات المركزية الامريكية والبريطانية في العراق، إلا ان الجندرمة الإيرانية قبضت عليه في كمين في شمال ايران قرب الحدود السوفييتية ونقلته الى معتقل "باغ مهران" في التلال المحيطة بطهران واخضعته الى تحقيق وتعذيب نفسي وجسدي قبل ان تسلمه مخفورا إلى سلطة بغداد قبل ايام من انتهاء تلك السنة في اطار صفقة قامت السلطتان الايرانية والعراقية بموجبها باستبدال 121 مناضلا من اعضاء الحزب الشيوعي العراقي كانوا معتقلين لديها بـ 56 مناضلاً ايرانياً من أعضاء حزب توده كانوا في المعتقلات العراقية منذ الاطاحة من قبل الاستخبارات المركزية الامريكية والبريطانية بحكومة الدكتور مصدق في إيران عام 1953.

وفي 1964، وبعد فترات من الإقامة القاسية في سجون في البصرة والعمارة وبغداد، احيل مظفر النواب الى المجلس العرفي الذي حكم عليه بعد محاكمة صورية زائفة، بالسجن لفترة عشرين سنة أمضى بعضها في القاعة رقم عشرة من سجن "نقرة السلمان" الصحراوي واخرى في القاووش رقم أربعة من سجن "الحلة" الذي سرعان ما فرّ منه مع رفاقه في نهاية تشرين الثاني من عام 1967 عبر نفق حفروه بأدوات المطبخ، فنقلهم إلى عالم الحرية في عملية جريئة اثارت ذهول السلطة وفرح الشعب العراقي وافتخاره، وسمحت لمظفر النواب بالتسلل إلى أهوار الجنوب ثم الى بغداد ومنها الى لبنان في 1969 منتهزا فرصة عفو سياسي لم يلبث إلا بضعة أيام منحه الحرية لكنه فتح عليه ابواب التشرد والغربة الى الآن رغم عودة خاطفة الى بلاده في ربيع 2011، تكاد ان تكون لحظة عناق ووداع لكل تلك الرموز الكونية التي استبطنها الشاعر الكبير في روحه على انها العراق.. وتلك الرموز، وتحديدا الارض والشمس والناس البسطاء والشعر، هي ما كان يبحث عنه هذا الشاعر الوفي لشعبه ووطنه خلال زيارة امضى ايامها طائفا متنقلا بين شوارع المتنبي وأبي نؤاس والكاظمية والاعظمية والثورة والشعلة وجسر الشهداء، وبين مقهى الشاهبندر و«اتحاد الأدباء والكتّاب» معلناً من منصة الأخير: «وجودي في هذا المبنى أشرف من وجودي في أي مكان آخر في الدول العربيّة التي مكثت فيها» بعد أن كان قد رفض المجيء الى بلاده سواء في ظل السلطة الفاشية البعثية المدمرة او في ظل الإحتلال الأمريكي الغاشم، او المجيء من بوابة غير بغداد التي دخلها كمواطن بسيط وكمسافر بسيط، رافضا نظام المحاصصات الطائفية والحزبية رفضا قاطعا، وزاهدا مستكبرا على كل المغريات التي ترامت امام قدميه من رواتب ومكاسب وإقامة غناء وحفلات استقبال رسمية، مقتصرا على تلك التي جمعتنا به او جمعته مرارا مع نخبة من قدامى رفاق السجون والمنافي والاصدقاء. وكما يخبرنا الشاعر كاظم غيلان الذي رافقه خلال بعض جولاته تلك ببغداد، كان المشهد الوحيد الذي جعل دموع مظفر النواب تنهمر، هو نهر دجلة حين أطلّ عليه من نافذة السيارة بينما كان يبحث في بغداد عن بيت للعائلة في منطقة كرادة مريم، حيث قضى ليلته الأخيرة قبل المنفى، ليفاجأ بأنّه تحوّل إلى حديقة عامّة.

وهكذا، وطوال تلك العقود المليئة بالانكسارات والخيبات التي لم تعد تحصى، والاعياد القليلة والمنعطفات الدائمة، لم يكفّ هذا الشاعر من الحضور بشكل او آخر في همومنا الوجدانية او السياسية او كليهما، وغيرهما ايضا بين آونة واخرى متقاربة او متباعدة حسب الحال وبشكل حميم غالبا، لا سيما بين العراقيين في الخارج وحيثما انتشروا على أرض الله الواسعة التي بعثرتنا الغربة والمنافي فوقها والغربة جمعت قلوبنا طويلاً على حب العراق.

أعلى