د.علي حداد
ليست المعارض الدورية للكتاب التي تعقد في معظم مدن العالم مجرد أسواق موسمية للتعريف بدور النشر ومعروضاتها من الكتب والإصدارات الأخرى وحسب، إنها مواسم من الخصب الإنساني يتجدد ميثاق بثها المعرفي، وقنوات تستعيد من خلالها الثقافة ـ بآفاقها المختلفة ـ زخم حضورها بين من يسعون إلى مكتنزاتها المعرفية التي يتأكد فعلها المستعاد في الزمان والمكان المعينين لكل معرض.
ولأن المعارض أسواق حقيقية للتواصل القرائي ببعده الثقافي المتسع فقد درجت معظمها على أن لا تكتفي بما تعرضه من الإصدارات الأدبية والعلمية الجديدة أو المكرورة الحضور، فساوقت ذلك بندوات وجلسات بحث وقراءة تشرع تناولاتها المعرفية على اتساع ما يتمثله الأفق الثقافي، لتقيم من خلالها حوارات معمقة مع أولئك الذين يكابدون إنتاج الكلمة وإبداعها من المثقفين والمفكرين والأدباء والفنانين، واضعة إياهم ـ ومنتجهم المتعين والمعروف لهم ـ بمواجهة مباشرة مع من يتلقى ذلك الإنتاج من القراء والمثقفين. وبذلك فقد أمست تلك المعارض فضاءات واسعة للقاءات مباشرة وخصيبة بين أركان الممارسة الثقافية: الكاتب والناشر والكتاب والقارئ.
بناء على الإحصاءات النهائية التي نشرت عن معرض العراق الدولي للكتاب بدورته الرابعة عشرة فقد عرضت فيه قرابة المليون كتاب، جلبتها أكثر من ثلاثمئة وعشرين دار نشر ومكتبة من إحدى وعشرين دولة. فيما صاحبت ذلك إقامة سبعين جلسة احتفائية وندوة نقاشية وحوارية، فضلاً عن حفلات توقيع الكتب.
ومع هذا الاشتجار المبهج لما رصّ من الكتب والدوريات والمعروضات الأخرى في المعرض. فقد بدا لافتاً التنظيم المتميز، والتنسيق وتناغم العرض لكل شيء فيه، وبما يجعل الزائر مفعماً بالشعور بأنه في فضاء ثقافي حقيقي يزهو بألوانه وتنوعه وجمال وأناقة كثير من معروضاته التي تماهى معها جمال وأناقة كثير من رواده.
وكان للزخم البشري المشهود من الزوار ـ والشباب خاصة ـ آثاره التي انعكست حبوراً وحيوية على وجوه أصحاب المكتبات ودور النشر، وهم يرون إقبالاً طيباً على تصفح الكتاب العربي واقتنائه.
وهكذا بثَ المعرض إشارات ثقافية ـ وتجارية في الآن نفسه ـ جديرة بالتأمل، فحين يكون الجهد دؤوباً والعمل متقناً وطموح الوصول إلى مستوى مرض من الاكتمال هو الهدف المنشود فإن ذلك يشرع الرغبة لدى الجمهور ليس للحضور والتفرج لمرة واحدة بل تكرار ذلك، من أجل التزود بما يحتاجه من الكتب، ومتعة معايشة لحظات من اللقاء مع الحاضرين من المثقفين البارزين وسواهم تحت سقف المعرض وأجوائه الحافلة بكل ما يثير رغبة التواصل وحميميته.
لقد صنعت مؤسسة المدى للاعلام والثقافة والفنون عبر معرضها للكتاب فضاء عراقياً صادح الإدلال على رسوخ ثقافي متواصل ومتجدد، بما جعل من فعالياته واحة ثقافية يشار إليها بإعجاب وتميز لافتين، وملتقى معرفياً تتبادر إلى حضور ندواته شخصيات عراقية وعربية بارزة المكانة. وذلك ما شهدناه في هذه الدورة التي كانت واحدة من أفضالها أنها ذهبت بالنبل بعيداً حين قررت ان تسلط الضوء عن عدد من الشخصيات العراقية التي كرست معظم جهدها العلمي والأدبي والسياسي لترسيخ هوية مواطنة بيّنة التشخص من أمثال: نزيهة الدليمي والسياب والجواهري وغائب طعمة فرمان والزهاوي ونازك الملائكة والعالم عبد الجبار عبد الله وغيرهم وكان من سمت الوفاء النبيل للقائمين على المعرض استهلال فعالياته في يوم الافتتاح بتقديم التحية لشاعر العراق الاكبر مظفر النواب، وهو أمر له دلالته على أن رموزنا الوطنية تتسع لاستذكارها مساحة الوطن كلها وقلوب أبنائه جميعهم. كما أنه يرسخ مساراً من التواصل الثقافي الذي طالما اشتغلت (المدى) عليه وفي أكثر من مناسبة ومشروع ذهبت فيه بعيداً في الدعوة إلى مواطنة عراقية تجمعنا، ونتجاوز عبرها كثيراً من الخلافات السياسية والفكرية والاجتماعية.